زواج رقية من عثمان:
شاءت قدرة الله لرقية أن ترزق بعد صبرها زوجاً صالحاً كريماً من النفر الثمانية الذين سبقوا إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، ذلك هو (عثمان بن عفان) صاحب النسب العريق، والطلعة البهية، والمال الموفور، والخلق الكريم. وعثمان بن عفان أحد فتيان قريش مالاً، وجمالاً، وعزاً، ومنعةً، تصافح سمعه همسات دافئة تدعو إلى عبادة العليم الخبير الله رب العالمين. والذي أعزه الله في الإسلام سبقاً وبذلاً وتضحيةً، وأكرمه بما يقدم عليه من شرف المصاهرة، وما كان الرسول الكريم ليبخل على صحابي مثل عثمان بمصاهرته، وسرعان ما استشار ابنته، ففهم منها الموافقة عن حب وكرامة، وتم لعثمان نقل عروسه إلى بيته، وهو يعلم أن قريشاً لن تشاركه فرحته، وسوف تغضب عليه أشد الغضب. ولكن الإيمان يفديه عثمان بالقلب ويسأل ربه القبول.
ودخلت رقية بيت الزوج العزيز، وهي تدرك أنها ستشاركه دعوته وصبره، وأن سبلاً صعبة سوف تسلكها معه دون شك إلى أن يتم النصر لأبيها وأتباعه. وسعدت رقية رضي الله عنها بهذا الزواج من التقي النقي عثمان بن عفان رضي الله عنه، وولدت رقية غلاماً من عثمان فسماه عبد الله، واكتنى به.
رقية والهجرة إلى الحبشة:
ودارت الأيام لكي تختبر صدق المؤمنين، وتشهد أن أتباع محمد قد تحملوا الكثير من أذى المشركين، كان المؤمنون وفي مقدمتهم رقية وعثمان رضي الله عنهم في كرب عظيم، فكفار قريش ينزلون بهم صنوف العذاب، وألوان البلاء والنقمة،)وما نقموا بهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد( (البروج:8).ولم يكن رسول الله r بقادر على إنقاذ المسلمين مما يلاقونه من البلاء المبين، وجاءه عثمان وابنته رقية يشكوان مما يقاسيان من فجرة الكافرين، ويقرران أنهما قد ضاقا باضطهاد قريش وأذاهم.
وجاء نفر آخرون ممن آمن من المسلمين، وشكوا إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما يجدون من أذى قريش، ومن أذى أبي جهل زعيم الفجار. ثم أشار النبي عليهم بأن يخرجوا إلى الحبشة، إذ يحكمها ملك رفيق لا يظلم عنده أحد، ومن ثم يجعل الله للمسلمين فرجاً مما هم عليه الآن.
وأخذت رقية وعثمان رضي الله عنهما يعدان ما يلزم للهجرة، وترك الوطن الأم مكة أم القرى. ويكون عثمان ورقية أول من هاجر على قرب عهدهما بالزواج، ونظرت رقية مع زوجها نظرة وداع على البلد الحبيب. وتمالكت دمعها قليلاً، ثم صعب ذلك عليها، فبكت وهي تعانق أباها وأمها وأخواتها الثلاث زينب وأم كلثوم والصغيرة فاطمة، ثم سارت راحلتها مع تسعة من المهاجرين، مفارقة الأهل والأحباب، وعثمان هو أول من هاجر بأهله، ثم توافدت بعد ذلك بعض العزاء والمواساة، لكنها ظلت أبداً تنزع إلى مكة وتحن إلى من تركتهم بها، وظل سمعها مرهفاً يتلهف إلى أنباء أبيها الرسول صلى الله عليه و سلم، وصحبة الكرام. ولقد أثرت شدة الشوق والحنين على صحتها، فأسقطت جنينها الأول، وخيف عليها من فرط الضعف والإعياء، ولعل مما خفف عنها الأزمة الحرجة رعاية زوجها وحبة وعطف المهاجرين وعنايتهم.
وانطلق المهاجرون نحو الحبشة تتقدمهم رقية وعثمان، حتى دخلوا على النجاشي، فأكرم وفادتهم، وأحسن مثواهم، فكانوا في خير جوار،لا يؤذيهم أحد ويقيمون شعائر دينهم في أمن وأمان وسلام. وكانت رقية رضي الله عنها في شوق واشتياق إلى أبيها رسول الله وأمها خديجة، ولكن المسافة بعيدة، وإن كانت الأرواح لتلتقي في الأحلام.
وجاء من أقصى مكة رجل من أصحاب رسول الله، فاجتمع به المسلمون في الحبشة، وأصاخوا إليه أسماعهم حيث راح يقص عليهم خبراً أثلج صدورهم، خبر إسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب، وكيف أن الله عز وجل قد أعز بهما الإسلام. واستبشر المهاجرون بإسلام حمزة وعمر، فخرجوا راجعين، وقلوبهم تخفق بالأمل والرجاء، وخصوصاً سيدة نساء المهاجرين رقية بنت رسول الله التي تعلق فؤادها وأفئدة المؤمنين بنبي الله محمد صلى الله عليه و سلم.
العودة إلى مكة:
وصلت إلى الحبشة شائعات كاذبة، تتحدث عن إيمان قريش بمحمد، فلم يقو بعض المهاجرين على مغالبة الحنين المستثار، وسَرعان ما ساروا في ركب متجهين نحو مكة، ويتقدمهم عثمان ورقية، ولكن يا للخيبة المريرة، فما أن بلغوا مشارف مكة، حتى أحاطت بهم صيحات الوعيد والهلاك. وطرقت رقية باب أبيها تحت جنح الظلام، فسمعت أقدام فاطمة وأم كلثوم، وما أن فتح الباب حتى تعانق الأحبة، وانهمرت دموع اللقاء. وأقبل محمد صلى الله عليه و سلم نحو ابنته يحنو عليها ويسعفها لتثوب إلى السكينة والصبر، فالأم خديجة قد قاست مع رسول الله وآل هاشم كثيراً من الاضطهاد مع أنها لم تهاجر، وقد ألقاها المرض طريحة الفراش، لتودع الدنيا وابنتها ما تزال غائبة في الحبشة.